بسم الله الرحمن الرحيم
تُعَرَّفُ البيئة اصطلاحاً بأنها: (الوسط أو المجال المكاني الذي يعيش فيه الإنسان فيتأثر ويؤثر فيه)، وفي اللغة يُقال: تبوأت منزلاً؛ أي نزلته، وبوّأ له منزلاً: هيأه له ومكَّن له فيه، قال تعالى:{وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} (الأعراف: 74)، وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} )الحج: 26). وتفيد لفظة (بوّأ) في هذه الآيات تهيئة المكان الصالح والمناسب، إلا أن كلمة الأرض هي اللفظة الدالة على المحيط أو المكان الذي يعيش فيه الإنسان، وهي أكثر تحديداً للمعنى الاصطلاحي للبيئة بدليل قوله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}(الحجر: 19، 20). والبيئة كما عرفها ابن خلدون في مقدمته: (مكان تتوفر فيه إمكانات معينة، والإنسان هو وحده المهيأ للاستفادة من هذه الإمكانات وإحداث التغيرات فيها حسبما تقتضيه ظروفه في المعاش والعمران البشري). وقد عرَّف المؤتمر الدولي للبيئة المنعقد في استوكهولم عام 1972م البيئة بأنها: (كل ما يحيط بالإنسان وتخبرنا به حواسنا سواء كان من صنع الإنسان أو من عمل الطبيعة). ويُتحفَّظ على الجملة الأخيرة من منظور إسلامي (أو من عمل الطبيعة)؛ لأن الطبيعة لا تعمل شيئاً بذاتها، وإنما بتسخير الله وإرادته. ويقسم علماء البيئةِ البيئةَ إلى قسمين:
1- البيئة الطبيعية: وتشمل كلّ ما يحيط بالإنسان من ظواهر وأشياء حية وغير حية ولا يكون له دخل في وجودها؛ كالمناخ، والتضاريس، والضوء، والتربة، والمعادن في باطن الأرض، والنباتات، والحيوانات.
2- البيئة البشرية: وتشمل الإنسان وإنجازاته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي أوجدها داخل بيئته الطبيعية.
ويرى علماء آخرون خطأ هذا التقسيم؛ لأنها وإن كانت تبدو وكأنها مستقلة بعضها عن بعض إلا أن التناسق بينها قائم؛ مما يجعل البيئة الطبيعية وحدة متكاملة، وعلى هذا تتبادل المواد والطاقة في إطار يطلق عليه النظام البيئي، وهو (نظام ترتبط مكوناته الفيزيائية والنباتية والحيوانية بعلاقات عضوية على النحو الذي يجعله قادراً على أداء مهمته التسخيرية بتوفير مقومات الحياة وعوامل البقاء للكائنات الحيَّة التي تعيش فيه دون أي تدخُّل غير رشيد من جانب الإنسان في هذه العلاقات يمكن أن يفضي إلى التلوث أو إلى غير ذلك من المشكلات البيئية؛ كنضوب الموارد الطبيعية واستنزافها أو تعطيلها عن أداء وظيفتها التي أناطها الله به).
ومن هذا يتضح توازن النظام الكوني، وتوازن الأنظمة البيئية الفرعية، وأن الله جعل لكل شيء في هذا الكون قدراً مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر: 49)، كما يتضح مدى أثر التصرفات السلبية للإنسان في النظام البيئي؛ إذ إن أيّ تصرُّف لا يتماشى مع سنة الله في الأرض والبيئة المحيطة بالإنسان سيؤدي حتماً إلى خلل في النظام البيئي، ولولا عناية الله لتعدى أثر تصرفات الإنسان الجائرة إلى ما حوله من أجرام سماوية مصداقاً لقوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}(المؤمنون: 71)، وقد استنتج بعض المفسرين من ذلك أن السماوات والأرض كانت في الأصل كتلة واحدة، ومما يؤكد ذلك قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}(الأنبياء: 30)، وفُسِّرت الآية عند بعض المفسرين بأن السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً وحقيقة متَّحدة ففتقها الله بالتنويع والتحريك، كما يذهب آخرون إلى أن تفسير الآية أن السماوات كانت واحدة ففتقت حتى صارت أفلاكاً، وكانت الأرض واحدة فجعلت طبقات وأقاليم، وفسّرها ابن عباس رضي الله عنهما بأن السموات كانت رتقاً؛ أي لا تمطر، والأرض رتقاً؛ أي لا تنبت، فلما خلق الله للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالإنبات.
وفي علم الكونيات المعاصر نظرية تقول بوحدة الكون منذ بدء الخلق، وهي نظرية الانفجار العظيم، وهذه النظرية تفترض أن كل المادة في الكون كانت منذ ما يتراوح بين عشرة وعشرين مليار عام معبأة في كتلة متناهية الكثافة، وقد انفجرت فيما بعد انفجاراً عنيفاً قذف بالمادة في جميع الاتجاهات وبسرعات هائلة، على أنها مجرد فرض لم تثبت صحته بأدلة قطعية، ولذلك لا ينبغي التسليم بصحته. ويتوافق مع هذه النظرية اتجاه في علم الفيزياء المعاصرة يُطلق عليه اسم (المبدأ الإنساني)، مؤدّاه أن الكون بظروفه الأولية وبنيته العامة وبتوحُّد نواميسه وخواصّه وبأبعاده الشاسعة وسرعة تمدُّده كان مهيأ منذ البداية لنشأة الحياة والوعي واستقبال الإنسان في مرحلة من مراحل تكوينه، هذا ما تتجه إليه النظرية العلمية الحديثة التي قوّضت الفلسفة المادية القديمة، تلك الفلسفة التي تتصادم وبشكل صارخ مع عقيدة الإسلام وموقفه من الكون والإنسان؛ إذ تزعم الفلسفة المادية القديمة أن المادة أزلية، وأن الكون خلق هكذا بلا خالق، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً